لم يتأخر عصام محفوظ عن الإنخراط في الحركة المسرحية الحديثة في لبنان، هو الشاعر والصحافي والناقد. فقد حرّضته على ما يبدو الأعمال الأولى التي قدمها كل من منير أبو دبس وأنطوان ملتقى. فالأول، القادم من باريس حيث كان يدرس الإخراج التلفزيوني والذي استدعته لجنة مهرجانات بعلبك ليدير مدرسة المسرح الحديث سنة 1960 والثاني، الذي أسس حلقة المسرح اللبناني سنة 1961 لتدريب الممثلين
هكذا بدأت فعلياً الحركة الحديثة للمسرح في لبنان، بالتعاون أيضاً مع عدد من المسرحيين الآخرين الذين كان لهم دور فاعل جداً في تنشيط هذه الحركة وتطورها مثل شكيب خوري وجلال خوري وروجيه عساف ونضال الأشقر وريمون جبارة وموريس معلوف وبرج فازليان. وانتشر هذا النشاط بسرعة إذ تلقفته على الفور أيادٍ عطشى، كانت ربما تنتظر فرصة كهذه لتنطلق. وبدأت المسارح تتأسس كمسرح بيروت ومسرح بعلبك ثم مسرح المدينة فيما بعد، وتحولت بعض صالات السينما الى مسارح مثل البيكاديللي وجان دارك والأورلي
وعلى الفور أيضاً أفردت الصحف مساحات للنقد حيث راح عدد من النقاد يتابع هذه الحركة عن كثب. كما فرض المسرح نفسه على الحراك الثقافي الذي كان ناشطاً آنذاك في بيروت في مختلف أنواعه: شعر، موسيقى ( الأخوان رحباني والمسرح الغنائي وفيروز) صحافة، ندوات، صراع سياسي فكري عقائدي بين مختلف الأحزاب، بحضور مجلة “شعر” التي استقطبت محاولات التحديث في الشعر العربي وخاضت سجالات حادّة مع التقليد
ساعد هذا المناخ الحركة المسرحية الحديثة على الانطلاق، ووجد رجال المسرح أنفسهم في مواجهة الإشكالية المصيرية للإنسان، وحاولوا، بقصد أو بغير قصد، التمرّد على الموروث التاريخي والفكري، وغامروا بالرّهان على أنساق جديدة في التعبير، وحافزهم المغامرة من أجل الإنعتاق من الثوابت والمراجع التقليدية، وطموح لصياغة تصورات جديدة، وإعادة ترتيب القيم والعلاقات التي سارت جنباً الى جنب مع إعادة النظر في المنطلقات والتقنيات وأساليب التلقي
وأفاد المسرح اللبناني أيضاً من خصوصية الأوضاع السياسية والديموغرافية، وتمتّعت الحياة الثقافية عموماً حتى بداية الحرب الأهلية سنة 1975 بهامش واسع من الحرية في ظلّ ديموقراطية ملتبسة
ساعد ذلك أن ما كان يجري في العالم كان مرئياً في لبنان بحكم الانفتاح وتعدد اللغات، وكان هناك رهان كبير بأن الثقافة هي الطريق المضمون نحو التحوّل والنهوض. وتحديداً كان هناك إيمان بقوة الفن بمختلف أنواعه وقدرته على التغيير. وقد وعى أعضاء لجنة مهرجانات بعلبك الى هذا الأمر عندما بادروا الى تأسيس مدرسة للتدريب على التمثيل بعد أن كانت اللجنة قد أسّست لمهرجانات بعلبك سنة 1956.وفي رأيي أنه لو تأخرت هذه المبادرة لكانت بداية الحركة المسرحية الحديثة قد تأخرت بدورها الى أجل غير معروف
وعندما بدأت هذه الحركة كما ذكرنا في البداية، بدأت تستعير نصوصها من المسرح العالمي: أوديب الملك، أنتيغون، ماكبث، هاملت، جريمة وعقاب وغيرها من أعمال لدورنمات وبيكيت ويونسكو وغيرهم
وهكذا بدأت الحركة المسرحية الحديثة بلا نص لبناني بعد أن أهملت مئات النصوص التي كان قد وضعها كتاب لبنانيون من قبل منذ مارون النقاش في منتصف القرن التاسع عشر الى منتصف القرن العشرين بحجّة انها لا تتماشى مع الشروط الجديدة للمسرح.
النقّاد بدورهم راحوا يطالبون بنصوص لبنانية، وأنا بدوري مارست النقد لفترة وطالبت بهذا الأمر. فكانت الخطوة الثانية هي الاقتباس واللبننة، لكن لم يطل الأمر حتى بدأ المسرحيون أمثال جلال خوري وشكيب خوري وفرقة محترف المسرح اللبناني بقيادة روجيه عساف ونضال الأشقر ومنير أبو دبس بكتابة نصوصهم، ومن الإنصاف القول إن عصام محفوظ كان السبّاق في التأليف للمسرح في تلك المرحلة
جاء عصام محفوظ منذ البداية بشروطه وبأسلوبه المتأثر الى حـدّ بعيد بأسلوب العبثيين الذي كان قد ظهر في أوروبا في أوائل الخمسينيّات، فكتب “الزنزلخت” سنة 1963 ولكنها لم تعرض في حلّتها النهائية إلا سنة 1968. و “الزنزلخت” هي الجزء الأول من ثلاثية جزؤها الثاني “الديكتاتور” والثالث “سعدون ملكاً” وهذه الأخيرة لم تعرض بسبب الحرب الأهلية
جاءت “الزنزلخت” بلغتها المتميزة التي تخالف المعتاد، لذلك رفض منير أبو دبس إخراجها عندما عرضها محفوظ عليه، أما أنطوان ملتقى فأراد أن يقدّمها في مهرجان راشانا، لكن محفوظ مانع بحجّة أن المسرحية تحتاج الى فضاء مقفل. وتحفّظ شكيب خوري حيالها فلم يخرجها أيضاً لسبب غير معروف. وإننا نفهم تحفّظ هؤلاء المخرجين الثلاثة الذين كانوا قد اعتادوا على التعامل مع النصوص العالمية الكلاسيكية المنضبطة في حبكة وسياق ولغة مألوفة ومضمونة. وحده برج فازليان المخرج الأرمني القادم من تجربة مسرحية غنية في المسرح الأرمني وافق على إخراج مسرحية محفوظ
تجري أحداث “الزنزلخت” في مستشفى للأمراض العقلية وشخصياتها جنرال فَظَّ وخادم يدعى سعدون، مغلوب على أمره، يحلم بفتاة لا يعرفها ولا يراها، وبعض الشخصيات المكمّلة. ولا يغيب عن النص النقد السياسي للأنظمة التي يغتصبها العسكر عنوة هنا وهناك، وينتج عنها القمع والظلم ونقص العدالة وغموض المصير. ويعتبر محفوظ “الزنزلخت” بأنها معركة ضد الإتفاق والتقليد والتفاهة والكسل واللامسرح، كما اعتبرها حداً فاصلاً بين النصّ الأدبي والنصّ المسرحي. ويقول في البيان رقم واحد الذي كتبه بعد عرض “الزنزلخت” تيمّناً بما سُمّي بالأورغانون الصغير للمسرح للكاتب الألماني برتولد برشت الذي كان كتبه سنة 1948 وحدّد فيه مبادىء مسرحه وأهدافـه، إنه ضد الكلمة الشعرية في المسرح (هذا القول يحتاج الى بحث ليس مكانه الآن) وإنه ضد الحذلقة الذهنية، والخطابة والبلاغة والغنائية، حتى أيضاً ضد الفكر ( وهذا كلام أيضاً يحتاج الى بحث) وكل ما يقتل الحياة في اللغة المسرحية. والحقيقة لم يأخذ المسرحيون ببيان محفوظ ولم يعيروه كبير اهتمام ولم يخضعه النقد للبحث والتشريح
وبالعودة الى “الزنزلخت” فان موضوع الجنون والتصرفات غير السويّة للأشخاص والمصحّات العقلية تطرّق اليه العديد من كتاب المسرح كل بأسلوبه أمثال: بيتر فايس ودورنمات وأرابال وإلبي وسارتر وكامو وبيكيت ويونسكو والوجوديون إجمالاً الذين مهّدوا لظهور مسرح العبث. لذا تتماهى “الزنزلخت” مع هذه الأجواء، فتبدوا أحداثها وكأنها خارج الزمن، ويتصرّف أشخاصها بحرّية تشبه حرّية المجانين. وهذه الأجواء في الحقيقة سمحت للمسرحيين أن يمشهدوا اللاوعي وأن يطلقوا العنان لخيالهم وتصوراتهم، ويتجرأوا على تصوير العالم خارج النسق المألوف والمعتاد
إن تأثير مسرح العبث واضح كل الوضوح في مسرح عصام محفوظ في كل ما كتب. وكون “الزنزلخت” هي تجربته الأولى المتكاملة فقد ظهرت اللعبة العبثية بحاجة الى تماسك بين اللفظة والمعنى والهدف أحياناً. صحيح أن اللعبة العبثية تدور خارج منطق الكلام المألوف إلا أنها عند زعماء المسرح العبثي أمثال يونسكو وبيكيت تبقى مشدودة بإحكام الى الحالة الروحية والفكرية والوجدانية للشخصيات، إلا أننا نراها عند محفوظ، الإنسان المشرقي والشاعر الرومنسي غير المتمرّس بهذا النوع من الكتابة وكأنها لا تتماسك أحياناً بتسلسل سببي بل بتسلسل وفق آليات اللفظة التي تتناسل قافزة من معنى الى معنى ومن حالة الى حالة نقيضة بسبب خلل أو تشابه حرفي. فالكلام عنده كأنه :لعبة تتوالى ألفاظها كسبحة ليس المنطق خيطها بل الصدفة، والسؤال لا ينتظر بالضروروة جواباً. ولنأخذ هذا المثال
الثاني: كل يوم جنازة
الثالث: الجنازة حامية
الثاني: والميت كلب
الثالث: كلب، أنا كان عندي كلب سلاقي
الثاني: والله كلبي الجعاري اللي مات سنة الماضية كان أحسن من كلاب الصيد
الثالث: كل الكلاب كلاب صيد
الأول : الإنسان أحسن من الكلب
الثاني: بس الكلب أمين
الثالث: الكانيش أحلاها
الأول: الكانيش واللولو متل البنات
.الثاني : والبنت متل أما. طبّ الجرّة عا تمّا بتطلع البنت لأمّا
نلاحظ في هذا المقطع الحواري القصير كيف تنوّع الموضوع من الجنازة لإنسان ما الى جنازة كلب، الى توصيف الكلب، ثم الى البنت التي تشبه امها بحسب المثل المعروف
حاول ريمون جبارة بدوره أن يلعب هذه اللعبة، ولكنه كمخرج وممثل، بخلاف محفوظ لم ينجرف وراء الثرثرة بلا هوادة، بل بقى مالكاً للفكرة، فلا تفلت من بين يديه بتسلسل الحوار فهو يمرّرها بحنكة بين شقوق جدار العبث ليعود فيلتقطها من الضفة الثانية للجدار بسرعة قبل أن توقع المشاهد في اللبس والحيرة. وكذلك فعل شكيب خوري في “جزيرة العصافير”(1982
يصف الناقد نزيه خاطر “الزنزلخت” في جريدة “النهار” على هذا الشكل: في الزنزلخت حوار سريع، حي، منفعل، عصبي، يتطوّر على إيقاع مضغوط تصاعدي ينتج عنه تدريجياً مناخ نفساني يتفاعل معه الجمهور… ثم يقول في مكان آخر: …وكانت الزنزلخت..ووُجِد المسرح اللبناني بها. (ملحق النهار 1969). ويقول يوسف الخال عن المسرحية نفسها: هذه المسرحية لغةً وتأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً عمل فـذّ لا عهد للمسرح العربي، أو في الأقلّ اللبناني (مجلة شعر عدد 38).
أما بالنسبة لإخراج المسرحية فقد تعرّض برج فازليان لنقد متفاوت. ومنهم من اعتبر الإخراج تقليداً لإخراج مسرحية ماراساد لبيتر فايس التي عرضت في باريس، وبالفعل كان الشبه واضحاً ما بين الإخراجين من حيث اعتماد السقالات الحديدية التي كان يتعمشق عليها الممثلون، ومن حيث الألبسة التي كانت من قماش الجنفيص. وقد استعمل ريمون جبارة السقالات الحديدية في إخراجه لمسرحية “محاكمة يسوع” على مسرح كازينو لبنان سنة 1980 وقد مثلتُ فيها شخصياً دور قيافا رئيس الكهنة اليهود
ومهما يكن فقد كانت “الزنزلخت” علامة فارقة في المسرح اللبناني، شجّعت بقية المسرحييّن على وضع نصوصهم بأنفسهم، وخفّت الاستعانة بالنصوص العالمية ترجمة واقتباساً الى حدّ بعيد
نكتفي بهذا القدر من الحديث عن “الزنزلخت” لننتقل الى عمل آخر لاقى صدىً واسعاً لدى الجمهور والنقّاد يوم عرضه، وهو مسرحية “الديكتاتور” الموضوعة سنة 1969
يقول محفوظ إن اسم المسرحية الأصلي كان “الجنرال” لكن الرقابة تحفظت على هذا العنوان. و “الديكتاتور” هي الحلقة الثانية من الثلاثية التي تدور حول شخصية محورية هي “سعدون”. والمسرحية يمثلها شخصان فقط، هما الديكتاتور، الذي مثّل دوره أنطوان كرباج وسعدون الذي مثله ميشال نبعه. والهاتف هو صلة الوصل بين الشخصين والخارج
نعرف أن الجنرال يقوم بثورة من أجل الإطاحة بالملك وهو في غرفة مغلقة وليس معه إلا الخادم سعدون. ومن خلال الهاتف نطّلع على مسيرة الثورة لحظة بلحظة
تنبني هذه المسرحية على العلاقة الصدامية بين الحاكم والشعب. وفيها اتهام قوي للأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي بشكل خاص، وكيف يؤلّه الإنسان المسحوق حاكمه الى درجة الاهتمام بتلميع جزمته. صحيح أن المسرحية تنتهي بانقلاب في مراتب الشخصيتين بعد موت الملك (في الخارج) فيصبح الجنرال خادماً والخادم ملكاً. وبموت الملك، (وهنا ينقلنا التشبيه الى مسرحية “الملك يموت” ليونسكو) يدّعي الجنرال في ختام المسرحية بأنه كان يريد خلاص العالم لكن العالم رفض
في تعليق سريع على فكرة خلاص العالم، هذه الفكرة التي فرضت نفسها على مجرى تحليلنا للعمل، نقول: إذا افترضنا أن المكتوب هو لسان كاتبه فإننا مع ذلك لا نريد أن نعتقد أن عصام محفوظ ينكّب نفسه هذه المسؤولية الضخمة، بمعنى أننا لا نريد أن نضعه في مصاف الأنبياء الذين جاؤوا لخلاص العالم، ومنهم السيد المسيح مثلاً، وربما نظلمه في هذا التشبيه، لا سيما وأن المضمون الفكري والروحي للنص لا يتسامى الى هذا السمو. لكن نزيه خاطر يجد أسباباً تخفيفية لإنقاذ محفوظ من هذه الورطة فيصف “الديكتاتور” بأنها “مهزلة إنقاذ العالم الشعرية “، لكنه يزيد التباسنا التباساً. وبدورنا نريد أن نجد مخرجاً مقبولاً من معضلة خلاص العالم الشائكة هذه، فنشير الى أن “الديكتاتور” حملت تلميحات لقضايا كبرى تحوك بالانسان مثل الظلم والفقر ونقص العدالة وهم العيش وازدواجية الذات والخيبة والإشكالية حول وجود الله وعبثية الوجود ووهم السعادة، وكلها عناوين تحيلنا الى التأمل، ومن ثم التفتيش عن مخارج لهذه المعضلات
إشكالية أخرى يقحم الكاتب نفسه فيها بلا رويّة عندما يقول الجنرال في أواخر المسرحية بأنه سيلغي التاريخ القديم والوهم القديم والأمل القديم، ويلغي الأمل من المستقبل ويلغي الوهم ويلغي الملك وكل إنسان سيصير ملكاً، وسوف يلغي الدولة وكل إنسان سيصير دولة، لم يعد هناك مكان للعاطفة ولا مكان للأمل، وسوف أبني نظامنا
نحاول أن نتابع محفوظ في كلامه هذا فنقع على إرهاصات تناقض نفسها بنفسها، فاذا ألغيت التاريخ القديم والوهم القديم والأمل القديم فأنت إذاً تبشرنا بأمل جديد، لكنك تعود فتقول بأنك ستلغي الأمل من المستقبل. وإذا ألغيت الدولة وألغيت العاطفة فعلى ماذا ستبني نظامك وكيف؟ على الفوضى أم على السراب؟
في المحصلة يمكن القول إن هذه المسرحية شأنها كشأن المسرح الذهني، فهي تطرح أسئلة حول أساس العلاقة بالعالم وبالآخر، حسب قول مؤلفها، وهذا هو المحور الأساس في المسرح العبثي على أي حال كما فسّره نقّاده. وإذا افترضنا أن هذا يحتاج الى وعينا لهذه العلاقة لكي نتمكن من فهمها وتماهينا معها فلسفياً، ولكن ماذا يحدث إذا استيقظنا ذات لحظة ووجدنا أن ذلك كله مجرّد لعب كلامي؟ (كما تقول خالدة السعيد) وماذا يحلّ بالكلمات التي حملت تلك المعاني وانتظمت بموجبها عندما يضيع خيط المعنى؟
نتوقف عند هذا السؤال الصعب لننتقل الى المسرحية الثالثة والأخيرة في هذا البحث وهي”مسرحية “لماذا” أما العنوان الأصلي فهو: لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71.
وللذين لم يتسنًّ لهم مشاهدة هذا العمل أو قراءته نوضح أن سرحان سرحان هو الشاب الفلسطيني الذي اغتال روبرت كندي سنة 1968 في أثناء حملة إنتخابية، أما الزعيم فهو اللقب الذي عرف به أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي. وفرج الله الحلو هو المناضل الشيوعي الذي استدرج الى سوريا وتمّت تصفيته هناك بعد تعذيب مروّع سنة 1959.
تشي هذه المسرحية بأنها مسرحية سياسية بامتياز، إذ تمرّ على ثلاثة مناضلين مختلفي الأهداف وهم في صراع مع قوىً أعتى منهم وأقوى. وقد وضع الكاتب شخصياته في إطار نادٍ ليلي (ستيريو) يدور فيه الخمر والسكر والعربدة وقوادة تدير مجموعة من النساء للدعارة
أما من حيث الشكل فقد لعب الكاتب لعبة المسرح داخل المسرح، هذه اللعبة التي استهوت بعض مسرحيينا في ذلك الوقت بتأثير من بيرانديللو، بحيث يكون الممثل ممثلاً ومشاهداً في الوقت عينه ويمكن أن يتولى أكثر من دور. ومن اللافت أيضاً في هذه المسرحية أن الحوار فيها حوار عادي متناسق منطقي بين سؤال وجواب، ما يعني أن محفوظ استغنى هنا عن الحوار العبثي الذي رأيناه في مسرحياته الأولى. ونلاحظ أيضاً تأثر محفوظ بأسلوب الكاتب الألماني برتولد برشت من حيث إدخال شخصية الرّاوي أو المعلّق، وهذا الأسلوب استعان به برشت ليوقف التأثير العاطفي للمشاهد من خلال قطع التواصل العاطفي بينه وبين الممثل ليبقى المشاهد على يقظة مما يجري. وقد أدخل محفوظ أيضاً الرقص والغناء. وفي مسرحية “أوبرا القروش الأربعة” لبرشت (1948) تدور الأحداث في ملهى ليلي تديره امرأة قوادة تؤجر بناتها للزبائن لقاء المال. وفي مسرحية برشت أيضاً تثور الفتيات على القوادة للمطالبة بالعدالة في توزيع المداخيل. كل هذا موجود في مسرحية محفوظ، حتى لتخال أن محفوظ نقل بتصرف مسرحية برشت هذه الى مسرحه، لكنه أسقط عليها الشخصيات الثلاث سرحان والزعيم والحلو ليعطيها أبعاداً سياسية. والاقتباس عن الغير والتصرّف بنصوصهم طريقة مقبولة في المسرح إجمالاً، ولدينا الكثير من هذه الأمثلة حتى عند الكتّاب الكبار Beggar,s Opera لـ Jon Gay خصوصاً إذا علمنا أن برشت نفسه إقتبس مسرحيته هذه عن
لاشك في أن المسرحية فيها نقد للواقع اللبناني والعربي والإنساني ككل مسرحيات محفوظ، لكن الإطار السياسي الذي أراد محفوظ إقحامه في هذه الأجواء بدا نافراً، ووجود ثلاثة من المناضلين السياسيين الذين ضحّوا بأنفسهم في سبيل قناعاتهم في مكان للسكر والعربدة والدعارة لم يتناسب مع كرامتهم وقدسية قضاياهم. فقد مزج محفوظ الإيروسية بالسياسة ليصيب الجمهور بالصدمة كما يقول. وبرأيه إن العمل المسرحي لكي يهزّ الجمهور ويقنعه ينبغي أن يمتلك درجة من التفجّر، كما يقول أيضاً، لذلك وضع هذه الشخصيات في مواجهة الموت وصور تصرفهم حياله، وزيادة في إضفاء الصبغة النضالية، وحيث كان الزمن زمن نضال فكري وسياسي بامتياز، خصوصاً وأن نتائج حرب الـ 67 كانت لا تزال ترخي بثقلها على الإنسان العربي، فقد حاول أن يربط الشخصيات بالقضية الفلسطينية، فجعل العمل يظهر وكأنه يسعى الى إحلال الهدف النضالي محل الخلاف السياسي، وإبراز إمكان التكامل بين التيارات المختلفة وليس التناقض
يصف عصام محفوظ مسرحية “لماذا…” بأنها من نوع المسرح التسجيلي، ويضيف بأن هذا النوع من المسرح هو الأول من نوعه في العالم العربي. بداية، لا أوافق محفوظ بأن مسرحيته هذه هي من نوع المسرح التسجيلي، إذ لا يكفي أن نُدخل في النّص شخصيات من تاريخنا المعاصر ونطلق على ألسنتها بعض المواقف لتصبح المسرحية تسجيلية، هنا أيضاً يريد محفوظ أن يضع كتفه الى جانب كتف برشت ليظهر معه في الصورة. والواقع إن المسرح التسجيلي النادر في التأليف المسرحي عموماً يقوم على شروط محدّدة لا يتّسع المجال لتفنيدها هنا. إنما يمكن أن نركن هذه المسرحية في زاوية المسرح السياسي- الاجتماعي، لأنها تتحدث من جهة عن فئة إجتماعية مستغَلّة تطالب بتوفير شروط أنسَب للعيش وتهاجم الفئة التي تستغلها. ومن ناحية ثانية، تتحدث عن أشكال من النضال السياسي من خلال طرح أفكار عقائدية وفكرية
بشكل عام، يمكن أن نضع مسرح عصام محفوظ في إطار المسرح السياسي- الاجتماعي لأنه يجمع المنهجين. صحيح أن محفوظ لا ينادي ولا يروّج لفكر سياسي بعينه لكن السياسة كمظهر فكري ثوري إنتقادي هي نهج واضح في مسرحه، وهو يوظفه في سبيل الدفاع عن القضايا الاجتماعية العادلة للإنسان. فمسرح محفوظ يقف مع الإنسان المظلوم والمسحوق والضعيف على الدوام، وخصوصاً الإنسان العربي الخاضع لأنظمة غير ديموقراطية
في المحصلة النهائية فإن من الإنصاف القول بأن عصام محفوظ، في ما كتب للمسرح اللبناني والعربي أيضاً في تلك الفترة، شكّل علامة فارقة في التأليف المسرحي، وكان له أثر واضح في مسيرتنا المسرحية بشكل عام، فقد جاء بخط مغاير عن السائد ونجح في تثبيت هذا الخط كنهج جديد في التأليف للمسرح واعتبر مؤلفاً طليعياً سباقاً في المسرح اللبناني