هناك إشكالية حادّة يفرضها لقب ” شحرور الوادي ” للشاعر الزجلي أسعد الخوري الفغالي، ولا تزال هذه الإشكالية مطروحة حتى اليوم. هل اللقب ينسب صاحبه حكماً الى بلدة وادي شحرور أم هو من بدادون، البلدة القريبة من الوادي؟
في الواقع إن الشحرور ولد في بدادون سنة 1894 يوم كان والده خليل سمعان يقيم فيها بصورة موقته كما يذكر في مقدمة كتابه: شمس المعنى. أما الوالد خليل فولد في وادي شحرور، والده سمعان فرح ووالدته تاج سالم. وعندما شبَّ أسعد تزوج من روز مبارك من بدادون ونزل فسكن في وادي شحرور العليا في بيت لآل شهاب، وبعدها بفترة انتقل الى وادي شحرور السفلى وسكن عند آل أبي سمرا. وعندما توفي سنة 1937 كان لا يزال يسكن هناك، ونقل جثمانه الى الوادي العليا وصُلّيَ عليه في كنيسة مار مخايل المارونية في حي “حارة الفغالية” ( يُذكر أن الشحرور ينتمي الى آل الفغالي) ثم نُقل جثمانه الى بدادون حيث ووري الثرى هناك. إذن الشحرور ولد وتزوج ودفن في بدادون
أما بخصوص الوالد خليل، الذي كان قد ولد في وادي شحرور العليا سنة 1859 وسكن فيها ومات فيها فهو لا شك ينتمي الى حيث ولد. وعندما سيم كاهناً سنة 1911 وحمل اسم الخوري لويس أصبح يتنقل بين الوادي وبدادون ليخدم في كنيستيهما. أما في الوادي فكان يسكن في منزل الياس غندور الفغالي وشقيقه يوسف (يعرف اليوم ببيت الحسون). اشترى الخوري لويس حصة يوسف وأسكن معه ابنه جرجي وعائلته التي من بين أفرادها جانيت الفغالي، الفنانة الشهيرة التي حملت لقبين لقب صباح ولقب شحرورة الوادي. بقي جرجي في هذا المنزل مع والده خمس سنوات انتقل بعدها ليسكن في منزل قريب في حارة الفغالية يخصّ نقولا نجيب الفغالي، ولم يغادره إلا بعد حادثة أليمة سببها خصام بين بعض شباب المنطقة جرى فيها إطلاق رصاص من مسدس فأصيبت إحدى بناته وكانت طفلة تمر من هناك برفقة شقيقتها جانيت، فقتلت الطفلة على الفور ونجت جانيت. فأخذ جرجي عائلته الى بلدة حومال الملاصقة للوادي وسكن فيها
وهكذا أيضاً لا نكون نجافي الحقيقة إذا نسَبنا الشحرورة صباح الى الوادي، لأنها ولدت وترعرعت فيها. وقد خصّصت لها بلدية الوادي العليا ساحة باسمها. وعندما توفيت سنة 2014 دفنت في بدادون بقرب عمّها الشحرور. وعندما مرَّ موكب تشييعها في الوادي أبى شبّان الوادي إلا أن يحملوا نعشها على الأكفّ الى حومال حيث نقلها شباب حومال من هناك الى بدادون. أما خليل سمعان فقد ظل يعيش في منزل الياس غندور الفغالي في الوادي الى أن وافته المنيّة سنة 1944
كان خليل شاعراً كبيراً له أتباع ومشجّعون، وكان يغني في المناسبات وحفلات الأعراس قبل أن يصبح كاهناً كما هو معروف. وقد نشر قسماً من أشعاره في أربعة كتب في السنوات العشرينيات ذكر فيها كيف كان يتنقل بين القرى المجاورة لينشد أشعاره يرافقه العديد من أبناء الوادي، فضلاً عن بعض شعرائها الذين كانوا أحياناً يشاركونه النظم والإنشاد. من هؤلاء الشعراء خليل يوسف حبيب، خليل الخوري، سليم أبي واكد خليل يوسف روحانا وفارس جرجس
وكان خليل يؤكد انتماءه دائماً الى وادي شحرور فوضع اسمه وكنيته على غلاف أحد كتبه وهو “عزرائيل القوالين الجهلاء” على الشكل التالي: خليل فرح سمعان الإفغالي الشحروري. ويذكر غير مرّة كيف كان يستعين بجمهرة من المشجّعين من أبناء الوادي ليرافقوه في غزواته الشعرية. وفي إحدى منازلاته الشعرية في أحد مقاهي بيروت بينه وبين شاعر يدعى جبور أبي جابر (البدواني) قال له جبور
إن لبّـوني الـــــردادي بدقــيقة ونــص بقيمـك
غـارة، ولحــدّ الوادي تا تفضى ريقـــك تبلع
:فأجابه خليل على القافية نفسها
إتلــــــو فعـــل الندامه وقـول التوبة ولا تكفـر
كيف ما تحوّل كلامي مــن أول ردّي بتــكسر
ما بيهتزّوا أقـــــدامي ولا بعود لوادي شحرور
ما لــم روحــك قدامي من بين كتافــك تطلــع
.وهناك الكثير من هذه الأقوال التي تثبت وجود خليل سمعان في وادي شحرور
أما بالنسبة الى الإبن أسعد، الذي ولا شك اكتسب هويته ومرجعيته من والده، فهو يعلن انتماءه الى وادي شحرور بكل صراحة من خلال شعره، لا بل اعتبر أن هذا الانتماء يُسبغ على شعره “لحن الشرف” كما في هذه الردّة التي يذكر فيها جدته
ستّي مـن طيَ القــبور عضاما بتصرخ وتنادي
أنشد حولي يا شحرور لحـن الشرف بالـــوادي
من ناحية أخرى، فنحن لو قرأنا ديوان الشحرور(1) بأكمله فلن نجد كلمة واحدة، أو بيت شعر واحداً ينسب فيه الشحرور نفسه الى بدادون، أو يذكر فيه حتى هذه البلدة، في حين أننا نجد العديد من الردّات والقصائد التي ينسب فيها نفسه وكنيته ومرجعيته الى وادي شحرور. ومنذ الصفحات الأولى للديوان، حيث هناك ثبْتٌ كامل للمنازلة الشعرية بين الشحرور ووالده خليل سمعان يوم كان الشحرور بعد فتى يتدرّج في دنيا الزجل، ويقال إن الشحرور وكان في الخامسة عشرة من عمره، تنكر بزيّ رجل عربي يلبس الكوفية والعقال ودخل على والده وهو يغني ويتجلى في إحدى سهراته الزجلية، وتنطّح لمنازلة الوالد، وهنا تقول الرواية إن الوالد لم يتعرّف على هذا الشاب الغريب في البداية، وعندما وجد ثباته في القول وذكاءه الوقاد في حلّ الأحاجي الشعرية التي كان يمتحنه بها تنبّه الى أن هذا الفتى يمتلك موهبة واعدة وعطية شعرية متميزة، فردّه فوراً الى مرجعيته الشحرورية بالقول:
نهفـاتك شحـرورية وفهمك لفكــاري هيّج
كان في تخمين خليل أن من يمتلك هذه النباهة والموهبة الشعرية وسرعة البديهة لا بدَّ وأن يكون من أرومة بلدة تنجب شعراء متميزين مثله فنسبه على الـفور الى الوادي
: وزيادة في التأكد من هوية الشاب يعود ويسأله مرّة أخرى
تطلّع نحوي تطليعه وقلي مينك ومن أي عيلة وأيا ضيعة وما هو دينك
: عندها يعترف الإبن أسعد بأصله ونسبه قائلاً
أصل النسبة فغاليّي من بيت بو صعب من ديار الشحرورية من أنمى شعب
وإذا تابعنا تصفّح الديوان نقع على اعترافات أخرى يعيد فيها الشحرور انتماءه الى الوادي. ففي قصيدة مطوّلة ألقاها في بعبدا يقول في البيتين الأخيرين هذه البلدة
قديش جايبلـــك من الـوادي سلام من صديقـك والدي قبــل المسير
شحرور وبعبدا على طول الدوام أختين همزة وصلهم نهر الغدير
وفي إحدى الحفلات مع أفراد جوقته يخاطب الشحرور علي الحاج وأنيس روحانا بهذا القول
فن المعنى جوادي وصابيعي سيوف ومش ممكن سبع الوادي يخشى قردين
:ويقول الشحرور أيضاً في إحدى أبيات المعنّى
يا أرض أصغي ويا سمانا إسمعي ما بدّعي وعالناس بظهر مطمعي
وادي بلقب شحرور رابي بظلّهـا وشحرور وادي باللقب حقي معي
وفي محاورة قصيرة بينه وبين كميل خليفة (كروان الوادي) الذي أسس أيضاً جوقة زجلية وعاصر الشحرور، يخاطب الكروان الشحرور ذاكراً إنتماءهما الى “وادي الزكا” واشتراكهما معاً في إرشاد الناس “الى دروب الوفاء”
الكروان: بوادي الزكا نحنا المحبة كلها والناس عادروب الوفا مندلّها
بحياة دم القلب وعروق العيون برموش جفني كل عقدة بحلّها
:فأجابه الشحرور
يا كميل الفــن مرفــوع اللــــوا وعندك شعور كتير رقّ من الهوا
إنت وأنا من فرد وادي طالعين منحـــلّ كل مشاكل العــــالم سوا
: وفي حفلة زجلية له في وادي العرايش،زحله، يقول الشحرور في إحدى الردّات
وادي العرايش وادي ووادي شحرور بلادي
رفّ جناحك يا شحرور تنقل من وادي لـوادي
أما أقوى إعتراف للشحرور بانتمائه الكامل لوادي شحرور، لابل يعزو شاعريته ووجوده المعنوي اليها هذه الردة التي قالها للكروان عندما التقى به مرة في أحد دكاكين الوادي وتبادلا بعض المداعبات الزجلية السريعة وهي مذكورة في ديوان الكروان (ص12 )
وادي شحـرور بلادي وفيها تربة أجــــــدادي
لولا من وادي شحرور ما كان شحرور الوادي
: ويجيبه الكروان
الشحرور بوادي تكنّى ومش وحدو معنّى غنّى
ما تكوّن بالوادي روح إلا وبتغنّـــي معنّــــــى
: وأخيراً، عندما توفي الشحرور قال الشاعر أسعد السبعلي في رثائه
يا غصة الوادي عا صوتك هالحنون ويا فجيعة الوردة عا تقصيف الغصون
: ومن رثاء رشيد نخله للشحرور أيضاً هذا المطلع من قصيدة بالفصحى
رفاق أسعد أين الصادح الشادي وأين شحروركم يا معشر الوادي
. Etude sur la poesie dialectale au Liban ويسمّي الدكتور جبور عبد النور في كتابه بالفرنسية
والصادر عن منشورات الجامعة اللبنانية (1966) (ص 32) مدرسة شحرور الوادي بالزجل بمدرسة وادي شحرور، وهذا كلام يجب أن يثمّن ويؤخذ بالاعتبار كونه صادراً عن باحث علمي رصين
بعد كل هذه الاستشهادات الشعرية الصريحة ليس من الخطأ القول إن شحرور الوادي ينتمي الى وادي شحرور لا سيما وأنه قد اكتسب هذه الهوية عن والده. أما نبيل إبن الشحرور فيسجل على هويته أنه من مواليد وادي شحرور العليا، وهو لا يزال حتى اليوم يمارس حقه الإنتخابي النيابي والبلدي في هذه البلدة
لكن في النهاية يجب القول إن الشحرور لم ينسَ كلياً أن جزءاً من روحه وكيانه ينتمي أيضاً الى بدادون، ونراه يقول :في إحدى رداته التي ذكرها لنا إبنه نبيل
بدادون يــا بدادون إيجــــــــادي فيكي وفيكي مهد ميلادي
في لي الشرف ربّي دعاني عيش نصّ فيكي ونصّ بالوادي